A-
A+

مأساة التقاعد...جريدة الوطن...م. انس معابرة

نتطلع بالكثير من الشغف للوصول إلى سن الستين لكي نرتاح من الأعمال ونُحال إلى التقاعد، وحينها بإمكاننا الحصول على الراتب التقاعدي دون الحاجة إلى بذل أي جهد يذكر، ومن الممكن أن نقضي أوقاتنا حينذاك في الاستراحة والاستمتاع والرحلات، وتمضية الأوقات مع الأسرة والأصدقاء.ولكن من أين جاء قانون التقاعد؟ ولماذا يجب على من بلغ الستين الخلود إلى الراحة في منزله؟ الحقيقة أن بداية قانون التقاعد كانت في ألمانيا، حيث ارتفعت نسبة البطالة في عام 1889، وتسببت بالكثير من الاحتجاجات، فما كان من الدولة إلا أن أحالت كبار السن إلى التقاعد، من أجل إتاحة الفرصة للشباب، ولإشغالهم عن إقامة الاحتجاجات وما ينتج عنها من النظرة السلبية للحكومة، وشل لحركة البلاد التجارية والاقتصادية.وإذا تساءلتَ عن سبب اختيار سن الستين، فالإجابة تكمن في أن متوسط العمر في تلك الفترة بلغ 62 عاماً، وبالتالي لن تدفع الدولة الرواتب التقاعدية لفترة طويلة، وستضمن إيجاد شواغر عمل للشباب.لقد تقدم الطب بشكل ملحوظ خلال القرن الذي تلى إصدار هذا القانون، وبدأت الظروف الصحية لكبار السن بالتحسن، وازداد متوسط الأعمار للبشر، كذلك تحسنت ظروف العمل وغدت أسهل بكثير ولا تحتاج الى الكثير من الجهد، ولكن لم يدعُ أحدهم الى إعادة النظر بقانون التقاعد في الدول حول العالم.حين كنتُ في اليابان، وجدت أن أغلب الخدمات كالمطاعم ومحلات البقالة وقيادة وسائط النقل تتم من قِبل كبار السن، وعندها سألت أحد المحاضرين عن هذه الظاهرة، فقال: «لقد بلغتُ من العمر 63 عاماً، وأنا بحاجة الى عامين من الخبرة في هذه الشركة لكي أتقدم للعمل في شركة وطنية كبرى». هل تدرك معنى هذا؟ يريد أن يتقدم لوظيفة جديدة بعمر الخامسة والستين.إنني أنظر الى التقاعد بأنه إحالة الموظف الى مقاعد الكسل والخمول، والتعرض الى حالات الإحباط والأمراض النفسية الخطيرة، وزراعة اليأس في نفوسهم بانتظار لحظة الموت.لقد بدأ معظم الأنبياء أعمالهم في سن متقدمة، ولم نسمع بأن أحدهم قد أدى رسالته وأُحيل الى التقاعد، بل استمر في حمل الرسالة وتأدية الأمانة الى أن انتقل الى الرفيق الأعلى.إنني مؤمن تماماً بأن لكل منا رسالته التي يحملها مهما كان مجال عمله، وبإمكانه تأديتها الى أن يأتيه الموت، وليس بحاجة الى وضع الراية وتسليم القيادة لغيره، والجلوس على المقاهي والحانات، والاستماع لأحاديث الجيران المملة، أو متابعة تفاصيل الأخبار لبقية حياته.إن المعلم الذي بلغ الستين هو بحد ذاته جوهرة، خبرة متقدمة في التعليم وأساليبه، والطبيب الذي بلغ الستين قد أجرى من العمليات الجراحية الكثير، وأصبحت في غاية السهولة بالنسبة له، فلماذا نُجلسه في البيت؟ يجب أن نحاول أن نزرع في عقول الموظفين أن الرسالة التي يحملها مهمة، وبإمكانه الإستمرار في تأديتها الى أن يأتيه القدر، تماماً كما فعلت «كوكاكولا» التي كانت تزرع في نفوس الموظفين بأنهم مسؤولون عن إسعاد الملايين حول العالم، بينما لم يكن عملهم يتجاوز تعبئة القارورات وتغطيتها وتغليفها.نصيحتي إلى آبائي وإخواني القريبين من سن التقاعد: لا تتقاعد ولا تسعى إلى التقاعد، لا تعتقد أنك ستعيش حياة الملوك بعد التقاعد، لأنك ستقضي أغلب اليوم في تقليب محطات التلفاز، وبعدها ستشتري أجهزة قياس الضغط والسكر، وستشعر بالكثير من الملل والكسل، وسيزداد وزنك وستتراجع صحتك، وستبدأ حقيبة الدواء بالنمو، وربما ستشعر بالوحدة والعزلة عن الجميع بعد زواج الأبناء والبنات، وبعدها لن تتنظر الموت؛ وإنما ستتمناه.إما إذا أجبرك القانون عن التقاعد؛ فنصيحتي بأن تتقاعد قانونياً فقط، ولكن لا تتوقف عن العمل، أكتب عن خبرتك لصحيفة أو مدونة، تطوع في مكتبة عامة، اعمل مع برامج الهلال الأحمر والجمعيات الخيرية، ترأس جميعة الحي أو الجمعية المسؤولة عن المسجد أو مجلس العشيرة، تابع الأشجار والنباتات في الحديقة، افعل ما تراه مناسباً؛ ولكن! لا تتوقف


Skip Navigation LinksGRSIA > الموقع > المقالات > مأساة التقاعد...جريدة الوطن...م. انس معابرة