A-
A+

المتقاعدون.. ثروة مهدرة - الشرق-د- عبدالله العمادي

الصورة الذهنية لحياة التقاعد عند غالبية المجتمعات العربية، أنها حياة رتيبة مملة، بل هي حياة الكسل واللاعمل، أو هكذا صار الاعتقاد عند كثيرين. وما يساعد على ترسيخ تلك الصورة في الأذهان، نماذج كثيرة من متقاعدين، تتحول حياتهم إلى النقيض عما كانوا عليه قبل التقاعد، فتنشأ بالتالي في الأذهان تلك الصورة الكئيبة السلبية، في حين أن الأمر ليس بالضرورة أن تكون بتلك الصورة، وحياة التقاعد ليست بتلك السوء، بل هي حياة جديدة، إن صح التعبير، لمن أراد أن يحياها.

أتحدث هاهنا عن الوضع العادي وهو بلوغ الموظف سن التقاعد، والتي غالباً تكون في الستينيات من عمره أو أقل من ذلك بالنسبة للموظفة. مع ضرورة الانتباه إلى أنني لا أتحدث عن حالات الإحالة للتقاعد القسري، حتى يكون تركيزنا على النقطة الأساسية أو هدف هذا المقال.

يقول الإيجابيون إن عمر الإنسان ما هو إلا رقم، وهذا الرقم لا يعني في الحياة كثيراً، بقدر ما يعني عمل وإنتاج المرء. فكم شاب ثلاثيني إذا ما قارنته بكهل خمسيني أو ستيني مثلاً، تجد همته وحماسته وعزيمته أقل من الكهل بكثير، رغم تفوق الأول في الجسم والصحة وأمور أخرى فسيولوجية، يتفوق الشاب عادة فيها على الكهل. إذ في أحيان كثيرة تجد الثاني صاحب همة وعزيمة ونشاط وإنتاج زاخر لا يتوقف، وهذا ما يدعو إلى أهمية استثمار المتقاعدين من جهة، بصورة وأخرى بدلاً من التهميش بحجج واهية، ومن جهة ثانية، استثمار المتقاعد لقدراته وخبراته.

آلية للتواصل بين جهة العمل والمتقاعد

الحاصل الآن في كثير من الجهات الحكومية أن الصلة والتواصل لن يكون لهما وجود، ما إن يحال الموظف للتقاعد، وكأنما هذا الموظف كان عبئاً على جهة العمل – ربما البعض نعم، لكن ليس الكل – ولم يكن هذا الموظف قبل أشهر قليلة، شعلة نشاط ومخزن خبرات ومصدر إلهام.

الجانب المحزن في المسألة، أنه تنقطع كل وسائل التواصل مع المتقاعد بعد الإحالة، وهو ما يستدعي فعلياً ضرورة إحداث نوع من التفكير لإيجاد آلية تواصل بين جهة العمل والمتقاعد، بحيث يتم استثمار تلك الخبرات فيما يعود بالنفع على جهة العمل، بدلاً من البحث عن مستشارين أو استشارات تجارية من هنا وهناك وقت الحاجة. وليس عندي تصور شامل لهذه الآلية، لكنني أطرحها كفكرة عامة، ولا أجد ما يمنع التفاكر والتباحث بشأنها، باعتبارها تطبيقا عمليا لمفهوم استثمار الوطن للمواطن حتى بعد الإحالة للتقاعد.

بيوت خبرة أو مخازن التفكير

واحدة من الأفكار غير الجديدة في المجتمعات الإنسانية، بيوت الخبرة أو مجامع التفكير، فإن مثل هذه الكيانات معروفة في الولايات المتحدة واليابان وبعض دول أوروبا، وتقوم فكرتها على الاستثمار الأمثل للموارد البشرية المؤهلة والمتخصصة والتي تم إحالتها للتقاعد، وتكون عادة ذات كفاءة وتمتلك خبرات ومهارات في مجموعة واسعة من الأنشطة لخدمة المجتمع بقطاعيه الحكومي والخاص، والعمل على الاستفادة من معارفهم والخبرات التي تم اكتسابها خلال فترات العمل، من أجل معالجة قضايا المجتمع أو الدولة المتنوعة بشكل عام، وذلك عبر خدمات استشارية أو بحثية، يقوم بها أولئك المتقاعدون عبر تلك الكيانات، التي كما أسلفنا، تكون على شكل مراكز أو بيوت خبرة غير ربحية عادة، حيث تستعين بها الحكومات نفسها.

قد تكون بعض أعمالها مدفوعة، وأخرى بدون مقابل، لاسيما إن كانت استشاراتهم مقدمة لحكوماتهم، وخاصة في تلك المجالات المتعلقة بالإستراتيجيات وخطط الدولة في مجالات الأمن والدبلوماسية والاقتصاد وغيرها من تلك التي يعتقد أولئك المنتمون لتلك البيوت أو المراكز، أن واجباتهم الوطنية تدفعهم لتقديم المشورة للدولة حين تلجأ إليهم بصورة وأخرى، دون انتظار المقابل المادي أو المعنوي. فإن أكرمتهم الدولة فهو خير وبركة. وإلا، فلن يقلل عدم التكريم من جهدهم وإنتاجهم، لأن المقصد من انضمامهم لتلك الكيانات في الأساس، هو استثمار أوقاتهم وتقديم النفع لمجتمعاتهم التي يرون أن صلاحها صلاح لهم، واستقرارها استقرار لهم، وأن ما ينفقونه من جهد ووقت في تلك الأعمال الاستشارية، فإنها دون شك ستعود عليهم بصورة وأخرى. أو هكذا هو المفهوم السائد عندهم، وهو ما نطمح أن ينتقل إلينا كذلك.

المتقاعدون ثروة مهدرة

مثل تلك الكيانات لو يتم التفكير فيها على مستوى وزاري، وبحث إنشائها - لأمكننا في ظني - استثمار كثير من خبراتنا التي أحيلت للتقاعد بحكم السن، بدلاً من هدرها حين يتم تجاهلها بالكلية، وتركها هائمة بين المقاهي أو المجالس - رغم أن ذلك مفيد بعض الشيء بعد سنوات من الجهد والعناء – لكن ذلك الروتين سرعان ما يدفع بالسأم والضجر للتسرب نحو نفس المتقاعد، وهو يرى إهدار وقته ما بين المقاهي والمجالس، والذي قد يؤثر سلباً عليه بعد حين من الدهر لا يطول عادة، لاسيما إن كان المتقاعد من النوع الباحث القارئ المجتهد، الذي يجد لذته وسعادته في استمرار العطاء بعد إحالته للتقاعد، ولكن بالطبع عبر نظام عمل غير روتيني كما كان في سابق عهده، ولكن برؤية وآلية جديدة كالمساهمة في مثل تلك المراكز وبيوت الخبرة، مدار الحديث. ولا أجد مانعاً يمنع من دراسة مثل هذه التجارب الموجودة بالعالم واستنساخها، مع تعديل يتوافق مع أنظمتنا وتوجهاتنا.

إن مراجعة سريعة للإحصائيات الصادرة عن إدارة التخطيط والجودة التابعة للهيئة العامة للتقاعد والتأمينات الاجتماعية، ستدعوك للتعرف على عدد الذين تمت إحالتهم للتقاعد خلال السنوات العشر الماضية، وستجد الرقم كبيراً بالنسبة لحجم القوى العاملة القطرية، ومن تخصصات ومجالات عديدة متنوعة.

ذلكم العدد مع آخرين ممن سبقوهم إلى التقاعد، يكفي لإنشاء عدة بيوت أو مجمعات خبرة، بحيث يتم وضع آلية عمل لها، وآلية أخرى لكيفية التواصل مع الجهات الراغبة في الاستفادة من خبراتها، سواء كانت حكومية أم خاصة.

عدد المتقاعدين في المجال الدبلوماسي، على سبيل المثال، يكفي لإنشاء بيت خبرة مختص بالمجال الدبلوماسي والسياسي. وعلى المنوال ذاته، يمكن جمع الخبرات المتقاعدة في مجالات الطاقة مثلاً وخبرات الإعلام والاقتصاد والتعليم وغيرها كثير.

هذه فكرة لم أخترعها ولم أقل جديداً فيها، لكن التباحث فيها وحولها، أمر أجد أهميته وضرورته، وخاصة والمجتمع مقبل على انتخابات مجلس شورى، لا شك أن لجانه المتنوعة، ما إن تعمل، ستحتاج كثيراً للخبرات والاستشارات الوطنية..

والله بكل جميل كفيل.

abdulla.emadi@gmail.com

Skip Navigation LinksGRSIA > الموقع > المقالات > المتقاعدون.. ثروة مهدرة - الشرق-د- عبدالله العمادي