مرحلة التقاعد مرحلة تحمل في طياتها تناقضات متنوعة، فبينما يحلم بها البعض ويعتبرها فترة ذهبية للراحة والنقاهة حيث يصل لها الموظف بعد سنوات طويلة من الكد والتعب، يراها البعض الاخر فترة صعبة يقف فيها الانسان امام نهاية حياته المهنية ليُودّع فيها قدرته على الإنتاج والعطاء، ومن ناحية أخرى فإن الكثير من الناس ينظرون اليها كفترة جيدة تُمكّنهم من قضاء الوقت الكافي مع أحبائهم وأصدقائهم، حقا انها مرحلة التناقضات فهي مزيج من الوقت والانشغال وخليط من العمل والاسترخاء ومجموعة غير متجانسة من المشاعر والمخاوف، من الطموح والفراغ، هي تلك الفترة التي يحلم بها الموظف طول حياته المهنية ويخاف من تبعاتها كلما اقتربت منه، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي فترة التقاعد، وما هي ميزاتها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها، وكيف بدأت هذه الفكرة في عالم الأعمال؟

بداية ومن الناحية اللغوية فإن التقاعد عن امر معين يعني عدم الاهتمام به وبالتالي فإن التقاعد عن العمل يعني عدم الاهتمام بالقيام بهذا العمل، ومن الناحية العامة فإن التقاعد هو المرحلة التي يتوقف فيها الفرد عن القيام بعمل معين بشكل رسمي، وذلك بعد قيامه به لفترة زمنية معينة ليكون بذلك قد وصل لختام سيرته المهنية وهو الذي عادة ما يكون اما لأسباب صحية او لبلوغه سنا محددة أو لقضائه عددا محسوبا من السنوات يقضيها بقيامه بهذا العمل، هذا وغالبا ما يحصل الموظف المتقاعد على تعويض مُحدّد مقابل سنوات العمل التي قضاها في الخدمة وهو في معظم الأحيان اما أن يكون عبارة عن راتب شهري يتم حسابه كنسبة معينة من راتبه الأخير الذي كان يتقاضاه قبل احالته الى التقاعد، او عبارة عن مبلغ مقطوع يحصل عليه مرة واحدة مقابل كل سنة قضاها في عمله الأخير، وبالحديث عن العصر الحديث فإن ألمانيا من أوائل الدول التي أدخلت نظام التقاعد السابق الى نظام أعمالها حيث يعتبر الرئيس أوتو فون بسمارك من أوائل الحكام الذين سنوا نظام التقاعد السابق وذلك في عام 1880.

وهذا ما يأخذنا للنقطة الأهم فما أهمية هذه الفترة وما أهم ميزاتها وكيف يُمكن الاستفادة منها؟

من المعروف ان فترة التقاعد غالبا ما تكون بعد قضاء سنوات طويلة في عمل معين وبالتالي فهي وفي معظم الأحيان تكون لأشخاص باتوا يملكون من الخبرة المهنية في القيام بأعمالهم ما يؤهلهم ليكونوا في موقع الخبراء القادرين على تعليم الموظفين وخاصة الشباب منهم، الكثير من أسرار العمل وكيفية القيام به بأفضل الطرق للحصول على أفضل النتائج، كذلك فإن فترة التقاعد هي فترة مهمة جدا للأشخاص ليقوموا بتقييم قدراتهم ونجاحاتهم المختلفة وبالتالي بناء مجموعة من الدراسات والبحوث يستفيد منها النشء الجديد ليبدأ من حيث انتهى من قبله وهو ما يُوفّر عليهم الوقت والجهد ويساعدهم على التقدم والتطور، كذلك فإن فترة التقاعد فرصة مناسبة للكثيرين وبعد التخلص من ثقل كاهل الأعباء والمسؤوليات المختلفة والتي غالبا ما تكون قد انتهت مع وصولهم لفترة التقاعد للقيام ببعض المخاطر المحسوبة لتأسيس أعمالهم الخاصة، والتي غالبا ما كانوا يؤخرونها إما لعدم توافر الوقت الكافي لها او خوفا من الخسارة والتي قد تجعلهم غير قادرين على مجابهة تحديات الحياة والأعمال.

وأخيرا وبرأيي الشخصي ان فترة التقاعد ما هي الا بداية جديدة للقيام بالأعمال بطريقة جديدة قائمة على الخبرة والمعرفة، ومبنّية على الشغف والطموح الذي لازم الموظفين في سنوات أعمالهم الطويلة بناء لما مر عليهم وعلى غيرهم من تغيرات وتحديات في قطاع الأعمال وهنا أتذكر قصة الكولونيل "هارلند ساندرز" الذي أسس سلسلة مطاعم "كنتاكي فرايد تشيكن" وهو في سن الخامسة والستين حين أدرك أنه ما زال أمامه الكثير من الوقت لتحقيق حلمه وذلك بعد سلسلة من الإخفاقات التي واجهها في فترات حياته السابقة وهي السلسلة الشهيرة التي قاربت فروعها ال20,000 فرع في عام 2015، وكذلك فإني أستذكر ما حدثتنا عنه كتب التاريخ من أن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم – كان اول من سنّ نظام التقاعد حين رأى رجلاً عجوزاً يستعطي الناس فسأله: ما الذي ألجأك إلى هذا الحال؟ فأجاب الرجل: إنها الحاجة والسنّ، فأخذه عمر بيده إلى بيت المال وقال للخازن: انظر هذا وأمثاله فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم، ثم خصص للرجل مبلغاً مالياً يحصل عليه كل شهر.